"قطار علوم الأرض" يندفع بقوة نحو المستقبل
الجيولوجي عبدالكريم العنزي يتفحص رواسب الحجر
الرملي من تشكيل ساق في منطقة القصيم.
وفي الإطار، منقبون عن الزيت: بعض الرواد الأوائل في أرامكو وهم: من اليمين جيري هاريس وماكس ستاينكي وولت هوق وتوم بارقر، أثناء عمل رفع مساحي في المنطقة
الشرقية في عام ١٩٣٧م.
يُعَدُّ قطاع التنقيب والإنتاج من أهم قطاعات الأعمال الحيوية في أرامكو السعودية، وما من شك في أن التقدم الذي أحرزه طيلة العقود الماضية لم يأتِ من فراغ، بل إنه مرَّ بمراحل عديدة وتحديات كثيرة، كما واجه تحديات كبيرة نجح في التغلب عليها بفضل الإصرار والمثابرة والتفكير الإبداعي والابتكاري لخبراء ومهندسي القطاع، الذين ارتقوا بمهاراتهم ومستوياتهم الأكاديمية والمهنية عبر كثير من العمل الدؤوب.
ولأن الاستمرار في أعمال التنقيب والحفر يتطلب كوادر بشرية تتمتع بالكفاءة والقدرة المبنية على المعرفة، أولت الشركة عناية كبيرة بتعليم وتدريب وتأهيل موظفيها. ولم تكن برامج التدريب التي تشهدها دوائر أرامكو السعودية في الوقت الحاضر وليدة الصدفة أو محض قرار أحادي، ولكنها تعود لتاريخ تأسيس الشركة وبدء أعمالها في مجال التنقيب عن البترول، أي منذ البدايات الأولى حين أُنشئت المدرسة الأولى، التي كانت تُعرف باسم مدرسة الجبل. تلك كانت نواة برامج التدريب والتطوير الضخمة التي نعرفها الآن في أرامكو السعودية.
وقد تطورت وتنوعت البرامج التعليمية في الشركة من ناحية الكم والنوع، وأصبح هناك الآلاف من الموظفين الذين تأهلوا للابتعاث لدراسة البكالوريوس، أو لنيل الشهادات العليا في مختلف الفروع العلمية وخاصة الهندسة والجيولوجيا والجيوفيزياء. وهذا ما يجعل لدائرة التنقيب مكانًا خاصًا في الشركة العملاقة، إذ تُعد أعمالها الواسعةُ والمعقدةُ العمودَ الفقري للتنقيب عن البترول واستخراجه وتكريره وتسويقه. ومن هنا تولي الدائرة اهتمامًا كبيرًا لمجال الدراسة والتدريب، فالموظفون هم ثروتها الأولى، والمصدر الأساس لكي تستمر في ممارسة أعمالها بكل حيوية وفاعلية.
كان هذا السؤال البسيط والعميق في آنٍ معًا منطلقًا لتغيّر المعادلات في دائرة التنقيب، ففي عام 2011م، وجّه نائب الرئيس للتنقيب السابق، الأستاذ إبراهيم السعدان، وكان حينها مديرًا عامًا، جميع المسؤولين في الدائرة، طالبًا منهم إعادة النظر ومراجعة طريقة تدريب الموظفين، وذلك من خلال خطة تطوير عشرية، وذلك لأهمية الثروة المعلوماتية، التي يمكن أن تنحسر في حال انتهاء سنوات خدمة بعض الموظفين وإحالتهم إلى التقاعد؛ فالخبرة التي اكتُسبت على مدى سنوات طويلة هي بمثابة الثروة التي ينبغي على دائرة التنقيب المحافظة عليها والحرص على انتقالها السلس إلى الموظفين الجدد من أجل ضمان استمرارية النجاح.
وقد عُرف عن قطاع التنقيب والإنتاج في أرامكو السعودية سعيه الدائم لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الخريجين أو من طلاب برامج الإعداد الجامعي لغير الموظفين. ففي عام 2005م بدأت دائرة التنقيب في استقطاب ما بين 40 إلى 60 متدربًا ومتدربة، وكانت هناك حاجة ماسة لمثل هذه الأعداد التي سوف تدرس الجيوفيزياء والجيولوجيا، في الوقت الذي بدأت فيه أعمال التنقيب على مستوى المملكة في اتساعها الملحوظ.
ويؤكد إبراهيم السعدان على ضرورة الاكتشاف المبكّر للقدرات والإمكانات المختلفة للمتدربين «لأن ذلك سيؤثر على حياتهم المهنية»، مع أهمية «المواءمة بين رغباتهم ومتطلبات العمل»، مضيفًا بقوله: «يجب علينا العمل على تحديد الثغرات التي تمنعنا من الانتقال إلى المستقبل بكفاءة، فنحن نبحث عن تحديد المرشدين الأكفاء والأكثر مهارة، لهذا السبب نتعامل مع الخريجين الجدد، الذين يتمتعون بكثير من الطاقة ويتطلعون إلى البدء في العمل بسرعة، وآخر ما نريد القيام به هو إعادتهم إلى مقاعد الدراسة».
أما المدير التنفيذي لدائرة التنقيب بالوكالة، الأستاذ مسفر الزهراني، فيقول عن البرنامج: «كل برامجنا التدريبية تصب في مصلحة موظفينا. هناك زيادة في مخرجات التعليم، لذا أصبحنا ملزمين بالبحث عن أساليب مختلفة لتدريبهم، فكما أنهم يحصلون على التدريب في صفوف الدراسة الجامعية، فقد أصبحنا الآن نوفّر لهم التدريب وهم على رأس العمل أيضًا. إننا نواجه تحديًا كبيرًا يتمحور حول إمكانية التوفيق بين التدريب وعمل الموظف».
والسؤال المطروح وهو في غاية الأهمية: كيف يمكن تسريع تدريب هؤلاء الشباب وإتاحة الفرصة أمامهم للانخراط في العمل بشكل مباشر مع وجود إشراف وتدريب لضمان جودة المخرجات، وفي الوقت نفسه المشاركة الفاعلة من خلال عملهم بالإدارة؟ والإجابة تتمثل في أهمية حصول الموظفين الجدد على برنامج تدريب سريع، يُتيح للموظفين الشباب من الجنسين التعلم وهم على رأس العمل، بالإضافة إلى مرونة انتقال المعرفة والخبرة من الجيل الذي قضى سنوات طويلة على رأس العمل إلى الجيل الجديد مع المحافظة على القدر نفسه من المهنية والأداء العالي، وبالتالي يتم من خلال هذا البرنامج تأهيل الشباب الجدد لأداء أعمالهم بكل كفاءة وحماسة مع تلبية طموحهم المهني.
يُضاف إلى ذلك أن هناك أعدادًا كبيرة من الموظفين، كان لابد لها أن تترك الشركة بعد وصولها إلى سن التقاعد، وهنا بدت الحاجة إلى سد فراغ الخبرة مُلِحَّة، فكان لا بد من استحداث برنامج يشمل التخصصين الرئيسين في دائرة التنقيب وهما الجيوفيزياء والجيولوجيا، حتى تسنح الفرصة للموظفين للتعمق في تخصصات علوم الأرض.
قطار علوم الأرض هو نقطة البداية
وقد توصّل قطاع التنقيب إلى فكرة برنامج «قطار علوم الأرض»، بعد عدد من الاجتماعات واللقاءات وجلسات عصف الذهن، التي قادها عديد من الجيولوجيين والجيوفيزيائيين، ومنهم من يعمل في الموارد البشرية في التنقيب.
يركّز برنامج «قطار علوم الأرض» على بناء نقاط القوة المشتركة في حقول العلوم الجيولوجية والجيوفيزيائية من خلال مزيج من الدورات الدراسية والتطبيقات العملية، بالإضافة إلى اختيار مرشدين للبرنامج من خلفيات وتخصصات مختلفة، لتمكين التقاطع بين الأفكار والخبرات، وبالتالي سد الفجوة العلمية بين الموظفين الجدد والموظفين الذين يملكون خبرة طويلة. ومن هنا يتمكن الجيل الجديد من الجيولوجيين والجيوفيزيائيين من تقديم حلول جديدة ومبتكرة للتحديات في مجال التنقيب عن البترول. ويستفيد المشاركون طوال البرنامج من فهمهم لعلوم الأرض من خلال المحاضرات النظرية والمشاريع الجماعية والرحلات الميدانية، وبعد ذلك يتم توجيههم للعمل في أقسام الدائرة.
وقد تم تقسيم مسار قطار علوم الأرض إلى أربع محطات، يخضع أثناءها الموظفون الجدد إلى تدريب مكثف من قبل الدائرة، كل مرحلة تشمل دراسة مكثفة في علوم الأرض لتلبي احتياجات الخريجين الجدد، في تخصصات الجيولوجيا والجيوفيزياء، وغيرها من المجالات ذات الصلة.
في المحطة الأولى يتم التركيز على الطرق الجيوفيزيائية وهذه المحطة مقسمة إلى مزيج من الدورات التدريبية، التي يقدمها اختصاصيون ذوو خبرة عالمية، مع تطبيقات عملية ترسخ المفاهيم الأساس لمبادئ الجيوفيزياء.
وفي المحطة الثانية يتم التركيز على الأنظمة البترولية وتشمل مبادئ وأدوات البترول الجيولوجية، بالإضافة إلى تقنيات العمل الرئيسة في التنقيب عن النفط والغاز. وهذا يتم إنجازه من خلال سلسلة من المحاضرات والمشاريع العملية تحت الإشراف المباشر من قبل المرشدين، لتمكين المشاركين في البرنامج من اكتساب المهارات اللازمة في أقصر وقت ممكن.
أما في المحطة الثالثة يتم تطبيق الأدوات والتقنيات اللازمة للفهم العميق لأساليب وأعمال استكشاف مكامن النفط والغاز، وتحديد أسباب النجاح والمخاطر المحتملة، حيث قد تكون سببًا في فشل عملية الاستكشاف.
ثم نصل إلى المحطة الرابعة والأخيرة لقطار علوم الأرض، التي يتم التركيز على طرق بناء نماذج ثلاثية الأبعاد لحقول ومكامن النفط والغاز، وتقييم احتياطيات النفط والغاز باستخدام سجلات الآبار مع المعلومات الجيوفيزيائية والبتروفيزيائية.
وتتلخص فكرة البرنامج في تسريع تطوير المهارات المطلوبة لسد الحاجة المتزايدة لأعمال التنقيب وتطوير حقول الزيت والغاز، حيث يتمكّن المتدرب من إنجاز الأعمال الموكلة إليه بمهارة، بعد إنهاء البرنامج الذي يستمر لمدة 18 شهرًا من التحاقه بالدائرة.
ويُتيح البرنامج فرصة ذهبية للمتدربين ودائرة التنقيب على حد سواء لاتخاذ القرارات المناسبة لتوجيه القوى العاملة في الاتجاه الصحيح وفي الوقت المناسب. وبعد إكمال برنامج قطار علوم الأرض، يبدأ فريق الموارد البشرية بدائرة التنقيب عملية تحديد التخصص، والقسم المناسب للخريجين على أساس ثلاثة عوامل: احتياجات العمل ومهاراتهم التي قُيّمت من قبل الموجهين، وأخيرًا اختيار الخريجين للتخصص الذي يرغبون فيه. خلال هذه المرحلة يتم إعطاء الأولوية لاختيار التخصص المناسب لمواهب وقدرات الخريج لاختيار قسم بعينه. وتتم على النحو التالي:
1. تحديد حاجة العمل: تتم مراجعة متطلبات كل قسم على حدة وما هي حاجته من المهنيين لكل تخصص.
2. تقييم مهارات الخريج من قبل الموجهين: في كل محطة يقوم الموجهون بتصنيف المنتسبين للقطار على حسب أدائهم في مهمات العمل الموكلة إليهم، التي تم إنجازها خلال فترة التحاقهم بالمراحل الأربع، مما يساعد في معرفة نقاط القوة لدى كل منتسب، والتخصص المناسب له، والذي من خلاله سيُحقق النجاح والتميّز المهني مستقبلًا.
3. خيار المرشح: يُحدد كل خريج التخصص الذي يرغب في اختياره للاستمرار في حياته المهنية، وهذا يتم عن طريق الإجابة عن الأسئلة التالية:
- ماهي ميولهم المهنية بناءً على الخبرة التي يوفرها البرنامج؟
- ماهي الإدارة التي يرغبون في الانضمام إليها؟
- هل يرغبون في تولي مهمة عمل قصيرة قبل الانضمام إلى الإدارة المستهدفة؟
وقد انطلق برنامج «قطار علوم الأرض» في شهر نوفمبر من عام 2013م، بإشراف قائدة الموارد البشرية: إيمان اليامي وأعضاء فريق الموارد البشرية بدائرة التنقيب، مع مجموعة استشارية من الاختصاصيين، والهدف الأساس هو وجود متابعة مباشرة لهذا البرنامج للاطلاع على أدق التفاصيل في مرحلة التنفيذ والتدخل بشكل سريع لتعديل البرنامج إذا دعت الحاجة. والجدير بالذكر أنه قد تم تخريج ثمان دفعات منذ انطلاق البرنامج، وقد بلغ عدد الخريجين ١٥٦ خريجًا، وهناك خطط لاستمرار البرنامج للسنوات القادمة، لتشمل جميع المنتسبين لبرنامج الإعداد الجامعي لغير الموظفين، إضافة الى مرشحي التوظيف من خريجي جامعات المملكة.